من الناس من جعل الدنيا مبلغ علمه، ومنتهى همه، فلا تراه يفكر إلا في شؤونه الفردية، وموارده المادية، من أموال وأولاد، ومآكل ومشارب، وأراضٍ وعمارات، وصناعة وتجارة..، في الليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلّى.. دون أدنى اهتمام بأُمور العقيدة والإيمان، والتربية والأخلاق، وقضايا الفقراء والمحتاجين، وسائر مشاكل المجتمع، ومن غير أن يستعد لأهوال يوم القيامة..
ومن الناس من توجه نحو الآخرة، ولكنه ظنّ أن الجنة تُنال بالأماني!!، فترك حبل الدنيا على غاربها، لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، لا ينشر علماً، ولا يكافح جهلاً، لا ينهض بواجب، ولا يقدم تضحية، منزوياً عن المجتمع، منطوياً على نفسه، ألقى بكَلّه على غيره، يقتات على كدّ سواه، مخالفاً بذلك سيرة الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين الذين عاشوا من عرق جبينهم، وأفنوا حياتهم من أجل مجتمعاتهم.
إن عدم إدراك قيمة كل من الدنيا والآخرة، والعلاقة بينهما، وواجب المسلمين نحوهما، أدى إلى أن ينصرف بعضهم إلى الدنيا، وينسى حظه من الآخرة، وأن يطلب بعضهم الآخر الجنة بالتهرب من تحمل مسؤولياته الإسلامية التي فرضها الله تعالى..
فما هي الدنيا؟
وما هي الآخرة؟
الدنيا ممر إلى مقر:
لقد خلق الله تعالى الأرض، واستخلف فيها الإنسان، وأوحى إليه بالرسالات الهادية، وختمها بالإسلام، وأمره بتوحيده، واتّباع منهجه، ليسعد الناس في معاشهم ومعادهم.
فالإنسان لم يُخلق عبثاً ليفنى، بل ليحمل رسالة الله في حياته الدنيا، ويمكث زمناً في البرزخ، ثم يبعث للحساب، فإما نعيم مقيم، وإما جحيم لا يريم:
{أفَحسِبتُم أنَّما خلقناكُم عَبثاً وأنكُم إلينا لا تُرجَعونَ}. (المؤمنون/115)
والمسلم ينظر إلى الدنيا نظرة واقعية، تتفق مع فطرته، ومع نظام الكون، بعيدة عن "الرهبانية" بعدها عن "المادية".
والمسلم يهتم بأُموره الشخصية، كما يهتم بشؤون المجتمع، ويلتزم بأحكام الإسلام ويحرص على نصرته، كما يتناول الطيبات ويهنأ بالملذات التي أباحها الله تعالى لعباده:
{قُل مَن حرّمَ زينةَ الله الّتي أخرجَ لعبادهِ والطيباتِ منَ الرزقِ قُل هيَ للذينَ آمنوا في الحياةِ الدنيا خالِصةً يومَ القيامةِ…}. (الأعراف/32)
والمسلم يبتغي من عمله في الدنيا سعادة دار القرار، فهو يرقى بأهدافه عن أن يخلد إلى الأرض ـ كالبهيمة التي لا يهمّها إلا علفها ـ وهو يأبى أن تكون الدنيا غايته:
{… أرضِيتُم بالحياةِ الدنيا مِنَ الآخرةِ فما متاعُ الحياةِ الدنيا في الآخرةِ إلاّ قليلٌ}. (التوبة/38)
فالدنيا مرحلة يحياها المسلم بالسعي والطاعة، ومتاع يتزود منه التقوى، وممر يجتازه إلى الآخرة:
{يا قومِ إنّما هذهِ الحياةُ الدنيا متاعٌ وإن الآخرةَ هي دارُ القرارِ}. (غافر/39)
الآخرة حصاد الدنيا:
إن الدار الآخرة هي الحياة الأبدية، فيها يسعد الإنسان أو يشقى بعمله في الدنيا:
{فأمّا مَنْ طغى * وآثرَ الحياةَ الدّنيا * فإنَّ الجحيمَ هيَ المأوى * وأما مَنْ خافَ مقامَ ربِّهِ ونهى النفسَ عنِ الهوى * فإنَّ الجنةَ هيَ المأوى}. (النازعات/37 ـ 41)
وليس ما ورد في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، من ذّم الدنيا، والتحذير منها معناه ترك العمل فيها، واعتزال الحياة والمجتمع، بل القصد ذم الانصراف إلى الشهوات والانهماك في المعاصي، والطغيان بالمال أو الجاه، وإيثار الحياة على العمل والجهد والتضحية في سبيل الله.
ذلك، لأن الإسلام يأمر بعمارة الأرض، وإقامة العبادات، وإشاعة العدل، ويحث على السعي في مناكب الأرض، لكسب المال الحلال.
"لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكفّ به وجهه، ويقضي به دَينه، ويصل به رحمه…".
كما يفرض الإسلام طلب العلم ونشره وتعليمه.
"من سلك طريقاً إلى العلم سلك الله به طريقاً إلى الجنة".
وهكذا… الخ.
فليس من المسلمين من ترك الآخرة للدنيا.. لأنه انحراف عن منهج الله، وتفضيل متعة تفنى، ولذة لا تبقى، على جنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين.
وليس من المسلمين من ترك الدنيا للآخرة.. لأنه طلب النعيم الأبدي بالكسل والإهمال والتقصير خلافاً لأوامر الله ونواهيه.
إن الفوز بالآخرة.. متوقف على طلب الدنيا وفق منهج الله.
فالدنيا مزرعة.. والآخرة حصادها.
يا أُمة محمد (صلى الله عليه وسلم):
إن حب الدنيا.. للدنيا: هو ما ينهى عنه الإسلام.
وإن حب الدنيا.. من أجل الآخرة.. هو ما يأمر به الإسلام.
"وإنما الأعمال بالنيات.. ولكل امرئ ما نوى".
{مَن كانَ يُريدُ العاجلةَ: عجَّلنا لهُ فيها ما نشاءُ لمن نُريدُ ثمَّ جعلنا لهُ جهنّمَ يصلاها مَذمُوماً مَدحُوراً * ومَن أرادَ الآخِرةَ وسعى لها سعيَها وهوَ مؤمنٌ: فأُولئك كانَ سعيُهُم مَشكُوراً}.(الإسراء/18 ـ 19)
وإن منهج الإسلام في عقائده وشرائعه، في أفكاره وأخلاقه، في شعائره وأعرافه، هو الكفيل الوحيد بتحقيق الهداية الشاملة، والسعادة الحقيقية، وإشاعة العدل والرفاه بين الناس..
وإن منهج الإسلام هو الضامن الوحيد لتوفير التوازن بين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة، وإعادة الأمن والطمأنينة والراحة للبشرية المعذبة..
ذلك، بأن الذي شرع الإسلام: هو خالق الإنسان، ومبدع الكون، وله الآخرة والأُولى، وهو مالك يوم الدين، وهو أحكم الحاكمين يوم يقف الناس لرب العالمين…
{رَبّنا: آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ}. (البقرة /201)