انتبه ! فإن الموت قادم -- خطبة لفضيلة الشيخ : محمد حسان
الحمد لله الذى أذل بالموت رقاب الجبابرة ... الحمد الله الذى أنهى بالموت آمال القياصرة فنقلهم بالموت من القصور إلى القبور .. ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود .. ومن ملاعبة الجوارى والنساء والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان .. ومن التنعم فى الطعام والشراب إلى التمرغ فى الوحل والتراب.
وأشهد أن لا إله إلا الله .. وحده لا شريك له.
ينادى يوم القيامة بعد فناء خلقه ويقول: أنا الملك .. أنا الجبار .. أنا المتكبر .. أنا العزيز .. ثم يقول جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ ويجيب على ذاته سبحانه، ويقول: لله الواحد القهار.
سبحانه .. سبحانه .. سبحانه .. سبحان ذى العزة والجبروت.. سبحان ذى الملك والملكوت .. سبحان من كتب الفناء على جميع خلقه وهو الحى الباقى الذى لا يموت.
وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله.. وصفيه من خلقه وخليله شرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وفضله على جميع خلقه وزكاه فى كل شئ، وبعد كل هذا خاطبه بقوله: إنك ميت وأنهم ميتون. فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد..
فحياكم الله جميعاً أيها الأحباب وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً منزلاً من الجنة، واسأل الله جل وعلا أن ينضر وجوهكم، وأن يزكى نفوسكم وأن يشرح صدوركم وأن يتقبل منى وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنى وإياكم فى الدنيا دائماً وأبداً على طاعته وفى الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبين، فى جنته ودار كرامته إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شئ قدير.
أحبتى فى الله:
إننا اليوم على موعد مع هذا الموضوع الذى أتألم كثيراً لأن دعاتنا وشيوخنا لا يذكرون الناس به إلا فى المناسبات فقط مع أننا فى أمس الحاجة إلى أن نذكره دائماً وأبداً.. امتثالاً عملياً لأمر حبيبنا ورسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم : كما فى الحديث الذى رواه بعض أصحاب السنن من حديث ابن عمر وأبى هريرة رضى الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أكثروا من ذكر هاذم اللذات.. قيل وما هاذم اللذات يا رسول الله قال: الموت"
فانتبه أيها المسلم .. فإن الموت قادم .. فإننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات وانشغل فيه كثير من الناس عن لقاء رب الأرض والسموات .. إنك لابد أن تستقر هذه الحقيقة الكبرى فى قلبك وعقلك ووجدانك.. إن الحياة فى هذه الأرض موقوته محدودة بأجل، ثم تأتى نهايتها حتماً فيموت الصالحون .. ويموت الطالحون، يموت المجاهدون، ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة، ويموت المستذلون للعبيد، يموت المخلصون الصادقون الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأى ثمن .. يموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف الغالية .. ويموت الفارغون التافهون الذين لا يعيشون فقط إلا من أجل المتاع الرخيص .. الكل يموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ}
ولذا سميت هذه الحقيقة فى القرآن بالحق فقال جل وعلا : {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أنك تموت .. والله حى لا يموت
وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة
أو ملائكة العذاب.
وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران
ذلك ما كنت منه تحيد.. ذلك ما كنت منه نهرب .. ذلك ما كنت منه تجرى .. ذلك ما كنت منه تخاف..
تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض .. خوفاً من الموت ..
وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع .. هرباً من الموت ..
وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ .. رعباً من الموت ..
ولكن .. ثم ماذا؟
أيها القوى الفتى .. يا أيها الذكى .. يا أيها العبقرى .. يأ أيها الكبير .. يا أيها الوزير .. يا أيها الأمير .. يا أيها الصغير ..
كل باك فسيبكى وكل ناع فسينعى
وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى
ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى
أيا من يدعى الفهم تتبع الذنب بالذنب أما بان لك العيب وما فى نصحه ريب أما أسمعك الصوت فتحطات وتهتم وتختال من الزهو كأن الموت ما عم! إلى اللحد وتنغط إلى أضيق من سم | إلى كم يا أخى الوهم وتخطى الخطأ الجم أما أنذرك الشيب أما نادي بك الموت أما تخشى من الموت فكم تسير فى السهو وتنفض إلى اللهو كأنى بك تنحط وقد أسلمك الرهط
|
هناك الجسم ممدود إلى أن ينخر العود فذود نفسك الخير وهيئ مركب السير بذا أوصيك يا صاح فطوبى لفتى راح
| ليستأكله الدود ويمسى العظم قد رم ودع ما يعقب الضير وخف من لجة اليم وقد بحتك من باح بآداب محمد يأتم
|
وصدق الله جل وعلا إذ يقول:
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}
كلا إذا بلغت التراقى .. إذا بلغت الروح الحلقوم..
وقيل من راق : من الذى يرقيه؟ من الذى يبذل له الرقية؟ من الذى يقدم له العلاج؟ من الذى يحول بينه وبين الموت؟
أنظر إليه!! وهو من هو؟ صاحب السلطان! صاحب الأموال! صاحب السيارات.. صاحب العمارات .. صاحب الوزارات..
أنظر إليه وهو على فراش الموت .. التف الأطباء من حوله .. ذاك يبذل له الرقية .. وذاك يقدم له العلاج .. يريدون شيئاً، وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر..
أنظر إليه أيها الحبيب أصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده ، وبدأ يحس بزمهرير قارس، يزحف إلى أنامل يديه وقدميه. يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل، لا يريد أن يتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بـ لا إله إلا الله.
إلا لمن عاش على الإيمان، ومات على الإيمان كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}
وينظر إلى أهله .. إلى أحبابه .. فيراهم مرة يبتعدون ومرة يقتربون ويرى الغرفة التى هو فيها مرة تضيق عليه فتصير كخرم إبرة ومرة يراها كالفضاء الموحش.
فإذا وعى ما حوله .. فى الصحوات .. بين السكرات والكربات .. نظر إليهم نظرة استعطاف.. نظرة رجاء .. نظرة أمل .. نظرة تمن وقال لهم بلسان الحال بل وبلسان المقال: